الاشكاليات النقدية والسردية في القصة القصيرة جداً.

الاشكاليات النقدية والسردية في القصة القصيرة جداً.

الإشكاليات النقدية والسردية في القصة القصيرة جداً
*د. محمد ياسين صبيح/ سوريا
تتميز القصة القصيرة جداً عن غيرها من الأجناس الأدبية، بمقدرتها الكبيرة على الامتاع والفائدة، بطريقة سريعة لا تعيق تعالقات الحياة وروتينها الناتج عن دخول عامل التكنولوجيا إلى كل مفاصل الحياة، والذي استوجب الكثير من السرعة في أنماط الحياة بشكل عام، من هنا نجد أن القصة ق ج، تمثل واقعا ملائماً لتحقيق الاستجابة الأدبية المناسبة، وهذا بالطيع ناتج عن تكوينها البنيوي الذي تفرضه مساحتها السردية الصغيرة، ومقدرتها على اختزال الفكرة بطريقة مكثفة لا تخل بحكائية النص، بل تعطيه قدرة تخيلية تأويلية، تحمل أفكار الكاتب التي يود قولها من خلاله، فهذه المساحة السردية الصغيرة للقصة القصيرة جداً، تتطلب مهارة في ادراك الخلفية الحكائية للحدث والقدرة على ملائمته مع هذه المساحة، عن طريق استخدام الجمل والأفعال بطريقة مكثفة ايحائية وملائمة لغوياً وصياغة، وبما يخدم القصة بذاتها. 

فمعيار الطول لا يحقق المبتغى القصصي من دهشة وعمق وصوابية لتأصيل أجناسيتها، بل المقدرة على خلق القيمة الدلالية، بصياغة سردية وميضية مكثفة تخلو من الترهلات الوصفية والسردية، كما يجب على الكاتب أن يتحرك ضمن أطرها الأساسية دون الانفلات إلى صيغ أدبية أخرى (خاطرة، شعر، خبر... الخ.)، فالحدث والشخصية والتكثيف والايحاء من أساسياتها السردية والحكائية، التي تتطلب دراية وخبرة في طرائق نظمها، كسرد مكثف لا يختصر القصة، بل يعطيها الإيحاء المناسب في مساحتها الضيقة. من هنا نرى أن التطرق إلى مسالة اساسياتها والى أليات نقدها تحتاج إلى بعض النقاش.
إشكاليات القراءة النقدية
النقد حسب أساس البلاغة للزمخشري: نقد النقاد الدراهم، أي ميز جيدها من رديئها، وحسب مختار الصحاح، نقد (الدراهم) أو (انتقدها) أي أخرج منها الزيف، ولم تأخذ الكلمة مدلولها الاصطلاحي إلا على يد قدامة بن جعفر في كتابه (نقد الشعر)، حيث يحدد مفهوم مختصر لكلمة نقد (تمييز جيد الشعر من رديئة). واختصاراً يمكننا القول إن النقد هو سبر الأعمال الأدبية دراسة وتحليلاً، وتبيان مدى أحقيتها الأجناسية، وقدرتها على تمثل الجنس الأدبي الذي تنتمي اليه، والاضاءة على سلبياتها وايجابياتها، وتوضيح تداخلاتها النصية داخلياً وخارجياً، وبالتالي الإضاءة على بعض مداليلها لإيجاد الترابط بين مكونات النص المختلفة، ومدى تحقق رؤية الكاتب اسلوبياً ودلالياً.
لا أعتقد أن حشد كمية كبيرة من المصطلحات النقدية والاسهاب في شرحها، ضروري لفهم تأويلات القصة أو لفهم مكوناتها البنيوية، فإغراق القراءات النقدية بهذه المصطلحات الأكاديمية، لا يهم القارئ وتشوش عملية التفنيد التحليلي، ويذهب به إلى أطر تبعده عن روح النص وأجوائه النقدية، بل المطلوب معرفة هذه المصطلحات والمدارس التي تنتمي اليها، والاشارة اليها عندما نستخدم أحدها، ورصد النص تحليلاً دون أن يشعر القارئ بفوقية استخدامها لمجرد العرض الأكاديمي البحت، فلكل كاتب وناقد رؤيته الخاضعة إلى اعتبارات عدة، من أهمها ثقافته، ومقدرته على تلمس خطى النص ومدى تحققه من كونه قصة قصيرة جداً أولاً، وبما يخدم رؤية الناقد لكل تقنية أو عنصر، ومدى استجابة المنجز الإبداعي لهذه الأحقية الأدبية، وما نحتاجه في نقد القصة ق ج في الدرجة الأولى هو التركيز على محورين:
1-المحور الأول: المحور الشكلاني، ويكمن في استنتاج قدرة النص على البقاء ضمن مجال القصة ق ج، وفي انخراطه بشعابها بكل جدارة، ومدى حمولته من الرمزية والايحاء، لأن الخلط بين مختلف الأجناس الأدبية يذهب روحية التفرد الأجناسي لكل نوع أدبي، ويجعلها نصوصا عائمة هلامية، لا تنتمي إلى قيمة أدبية معينة، لذلك ليس من الضرورة ان أن يكون النص جيداً اذا تضمن فكرة جيدة فقط، فالخاطرة تحوي أفكارا جيدة وكذلك المقالة والتحقيق الصحفي، من هنا يتوجب على الناقد أن يستشف المقدرة الإبداعية والسردية عند الكاتب من خلال الحفاظ على أجناسية القصة ق ج، والتدليل على نوعية النص الذي يكتب، هل هو خاطرة، شعر نثري، أم ق ق ج؟، فالخلط بين الاجناسٍ الأدبية كما ذكرنا. قد يذهب بإحداها على حساب الجنس الأدبي الأخر الذي يتداخل معه بقوة، من هنا يكون دور الناقد محوريا في تلمس صوابية النوع الأدبي لكل نص، ومدى أحقيته الأجناسية التي ينتمي اليها، لذلك نرى أن تقدير الأثر الأدبي وتقدير القيمة الأسلوبية له، من خلال قيمته النصية المبنية على القواعد أو العناصر العامة التي تشكل ركيزة المنجز الإبداعي لل (ق ق ج)، تعني مقدرة الناقد على تبيان المقدرة الفنية للكاتب في تمكنه من خرق الأساليب العادية ورؤية الإضافات الجمالية والفكرية التي اضافها الكاتب إلى نصه.
لذلك نرى أن التوازن البنيوي الشكلي بين مكونات النص السردية، وضرورة الانحياز إلى تقنية التكثيف والنظر في إمكانية تحقيقيها بتناغم بنيوي مع حكائية النص، لتحقيق شرط التسمية أولاً (ق ق ج)، ولعدم الخلط مع القصة القصيرة التي تتميز بمساحة تعبيرية ووصفية أكبر، يعطي القصة ق ج، مكانتها وتفردها الإبداعي.
2-المحور الثاني: هو القراءة التأويلية، وان كانت خاضعة لثقافة وذوق القارئ والناقد، ولكن ذلك يجب أن لا يتعلق بتاريخية حياة الكاتب، وهنا نوافق بارت ودي سوسير على تنحي الكاتب جانباً، لصالج النص فقط، فالقراءة هي من يحيي النص باستمرار، وهذه القراءة التأويلية ليس من الضرورة أن تشمل كل تفاصيل النص، وكل تفسيراته الممكنة من طرف الناقد، لأن ذلك قد يقتل النص ويحوله إلى نصٍ متعالٍ، يتمركز حول مفهوم وحيد، كما يريد أن يجعله البنيويين، لكن الرمزية والايحاء التي يتميز بهما النص، يمكن أن تعطيه مقدرة على امتصاص العديد من المفاهيم الموازية من التأثيرات الغامضة للأفعال والأحداث التي يجب أن نبحث عنها دائماً بين طبقات النص الرمزية والمركبة، وفي تعالقاته الداخلية والخارجية، وهذا يجعل من النص باباً مفتوحا يحيا بفتحه كل مرة، فكل رمز حسب السيميائيين يجب أن يقول مفهوما متعالقا مع باقي الجمل يختلف عن مفهوم الرمز القاموسي أو المنفرد، فالمقدرة الإبداعية للكاتب تتجلى في حشر رموزه وجمله دون أن يثقل كيان النص ومساحته باكتظاظ يرهق النص والقارئ معاً، ويفقده تبريره كقصة ق ج.
الصياغة والمشروعية السردية
إن المساحة السردية المحدودة للنص، تجعله خاضعاً لاعتبارات لغوية وسردية، تدفع الكاتب إلى إعطاءه طاقة تأويلية وجمالية، قادرة على خلق المتعة والفائدة والدهشة لدى المتلقي، وقادرة على الغور عميقا في مجموعة من الرؤى الفكرية التي يقدمها النص، تبتعد به عن المعنى المتعالي الوحيد الوجهة كما يرى البنيويين كدي سوسير وبارت وغيرهم، لذلك نجد ان الإيحاء والرمزية تعطي النص قوة دافعة تخيلية، تنحيه عن تعاليه التأويلي الفوقي، إلى انشغال نصي ديناميكي اختلافي، تتحقق به الكثير من المفاهيم التأويلية، وتنسجم معه اصطفافات تضادية، تخلق للنص أبواباً جمالية، تعيد بناء المفاهيم للفكرة المطروحة. من هنا نركز على مقدرة الكاتب الإبداعية في خلق دوائر تفاعلية من الأثار التأويلية للنص، دون أن يدفعنا إلى عمق مركز الدائرة قسراً، لنبق فيها مجبرين، دون ان يكون لدينا القدرة على تخطي أفق الرؤية المرسوم، من قبل الكاتب، من هنا نجد ان على الكاتب ان يعيد ترتيب نصه صياغة لأكثر من مرة، حتى يتخلى عن الأماكن الباهتة به، وعن الأماكن الشارحة والتي تلغي دور المتلقي في اكمال دورة المعنى، من خلال تفاعله البناء، وليس التلقي السلبي فقط، من خلال أخذ ما يمليه الكاتب في نصه باتجاه المعنى الفوقي المتمركز في أسفل الدائرة.
فصياغة النص نعتبرها كيمياء إبداعية مرتبطة بمجموعة من العوامل: أهمها المعرفة الضرورية بتقنيات السرد القصير جداً، فليس كل كتابة ندرجها تحت جنس القصة ق ج، فالقصة القصيرة جنس أدبي مميز وصعب السبك، لكنه يقدم أفكاراً ورؤية سردية طويلة فيها بعض الوصف والاطالة، وكذلك الخاطرة الجميلة تحوي أفكاراً جميلة بطريقة سردية ذاتية تبتعد عن حركية السرد وتصاعد أحداثه في وحدة سردية مختلفة ايضاً، لكنها تبقى خاطرة، وكذلك باقي الأجناس الأدبية، من هنا نرى ضرورة الانحياز إلى التموضع السردي الأجناسي اثناء الكتابة، لتحديد ماهية النص الذي نكتب، فالقصة ق ج، تتطلب بعض المواصفات السردية والبنيوية لتبقى ضمن جنسها، وهذه المواصفات أو العناصر كما عبر عنها الكثير من النقاد (جميل حمداوي، يوسف حطيني، محمد مينو، أجمد جاسم الحسين، سعاد مسكين وغيرهم الكثير) والتي تتجلى في (الحكائية، والتكثيف، والوحدة، والمفارقة، وفعلية الجملة، ونضيف الايحاء والشاعرية والحدث ووجود الشخصية)، وهي ما تعطي للقصة ق ج شرعيتها، فالتجنيس الأدبي عامل مهم ومساعد، لفهم وتذوق النص كحالة إبداعية متفردة، لكننا نعتبر أنه من غير الصواب الإصرار على التقيد التام بحرفية بعض العناصر التي يشدد عليها البعض، كحالة تقعيد جامدة لا يمكن الإفلات منها، مع الإصرار على وجود عناصر مهمة وأساسية لتمييزها، كحالة سردية وحكائية تحوي حدثاً وشخصية، وتنحو الى التكثيف كأسلوب سردي مهم.
فعند سبر اغوار النص التأويلية، تلعب ثقافة الناقد دورا مهماً في اكتشاف مسارب المعنى غير المحددة، وليس من الضرورة الجزم بهذا المعنى او ذاك، انما المطلوب هو الإشارة إلى التحولات الدلالية التي قد يشرعها النص عند القراءة، فمثلاً العنوان في القصة ق ج، نعتبره مدخلا مهما وعتبة ملغمة بالكثير من الإشكاليات، ونظرا لقصر المساحة السردية للنص، يجب ان يبق التشويق حاضراً بقوة في سياق السرد، وهذا يتطلب منا جعل العنوان مدخلاً ايحائياً للمعنى، وليس شرحا له، لأن شرح مضمون النص مسبقاً، يفقد مشروعية استكمال قراءته، ومتعة اكتشاف المعاني التي قد يتضمنها النص، من هنا نرى أن يبق العنوان حيادياً في الطرح، له تأثير تأويلي مرتبط بالمعنى العام للقصة، نكتشفه عندما نصل الى النهاية المهمة والمفاجئة. فكل الأجناس الأدبية يجب ان تتحلى بالمتعة، والمتعة تتعلق بالتشويق، والتشويق يتعلق بتقديم النص لمفاجأة ما، وخاصة في القفلة، وهذا ما نتوخاه في القصة ق ج، فبدون وجود المتعة والمفاجأة ينسحب النص إلى الصيغة الخبرية التي تقدم الحدث على وجبات متتابعة كخبر نتلقفه برغبة، فنحن أمام قصة ق ج، وليس رواية حتى نسترسل ونشرح، فلنترك للقارئ مهمة الاستنتاج لا ان نلقمه ذلك بجمل لا داعي لوجودها.
الرمزية وجمالية القص
نعرف أن الأدب ليس نقلاً للواقع كما هو لغويا، بل هو صياغة للحدث بلغة أدبية، كما عبر عن ذلك الكثير من النقاد أمثال شكلوفسكي، وياكبسون وغيرهم... نستخدم فيها الكثير من العناصر (أسماء، وأشياء، وحيوانات وطيور وغير ذلك)، وهذه العناصر هي بلغة السيميائيين رموز تعني ما تعنيه، كما يقول جاكوبسون (ان موضوع النص ليس الأدب، بل الأدبية، أي مجموع الخصائص التي تجعل من عمل ما أدبياً)، لذلك يجب نقل الواقع بلغة تخيلية باستخدام تقنيات الجماليات البلاغية والمحسنات البديعية، والابتعاد عن التقريرية، وهنا يبدأ الكاتب بإدخال الرمز عن قصد أو غير قصد، فلكل اسم أو شيء أو كلمة معنى مختلفا عن المعنى القاموسي المتعارف عليه.. من هنا إذا فهمنا هذه الجزئية، سنعرف بالتأكيد لماذا الكاتب استخدم كلمة بعينها كعنوان مثلاً، أو لماذا ادخل أسماء بعض الأشياء والحيوانات والطيور في نصه، فلكل اسم، معنى تأويلياً مختلفا يغني النص عند النظر اليه من هذه الزاوية، وليس من وجهة نظر كونه (طير أو حيوان أو شجرة وهكذا...). فالكاتب حتى عن غير قصد يدخل إلى نصه الكثير من الرموز، فالخيال الأدبي مطلوب وضروري، فهو مكون يخالف الواقع، يستوحي منه شروطا وتصورات يريدها الكاتب أن تكون مكملة للواقع، وهذا الخيال قد يكون غرائبي أو بسيط، وهذا تابع لأسلوب الكاتب نفسه.. لذلك على الناقد حسب البنيويين كدي سوسير وبارت، أن يدرس علاقات الوحدات والبنى الصغيرة بعضها ببعض داخل النص، في محاولة للوصول إلى تحديد للنظام أو البناء الكلي الذي يجعل النص موضوع الدراسة أدبًا.
فالرمزية ليست ترفاً، وليست موجهة لطبقة محددة من القراء، بل نهجاً واسلوباً ابداعياً يضيف الكثير من القيمة الفكرية والتأويلية والجمالية للنص، وتعطي الوحدات السردية قيمتها الأدبية والتخيلية، وقديم قدم الكتابة، فهرمس قبل الفي عام، لم يعترف بالمعنى الأوحد للنص ووجد أن التأويل هو عملية توليد متعددة للمعنى، ولم يعترف بالرؤية المباشرة للنص، لأن ذلك يقيد المعنى، واستمرت الهرميسية عبر ايكو والجرجاني ودريدا ودي سوسير وبارت وغيرهم الكثير، فهي تسمح للعقل بالسمو فوق السطحية المباشرة، وتأخذ النص من مباشرته الفجة التي قد تعني في الحالة الدينية أحيانا عملية تراجعية وتطرف. إلى حالة من التأمل والتحويل الدلالي الذي يدعم الرؤية الموازية للكاتب، من خلال اكتشاف ما يضمره النص عن طريق ملاحقة الأثر التأويلي لكل رموزه وتعالقاته. فعندما حاول بعض الشعراء الفرنسيين أمثال بودلير ورامبو، الارتقاء بالشعر نحو أسلوب جديد، عن طريق استخدام الرموز، سميت أعمالهم بالرمزية، لأنها ابتعدت عن الرومانتيكية، وعن الواقعية الفجة. رغم أن الرمز قديم جداً في التراث العالمي، والأمثلة كثيرة في أدبنا العربي القديم، فالمعري والشريف الرضي وغيرهم، كانوا السباقين إلى استخدام الرمز، والى اعطاءه طاقة تأويلية منفتحة، ومتحررة من الانغلاق التأويلي الأوحد.. لذلك نستطيع القول، أن المباشرة في القصة ان لم تترافق باستخدام مختلف للغة ولا تكرر اللغة السردية التقليدية، قد تتحول إلى لغة خبرية، أو مقولة، ومن يريد ان تكون لغته مباشرة تبتعد عن المحاكاة الأدبية، فليقرأ الأخبار ويكتب الأخبار، فالصحفي مهمته كتابة وصياغة الخبر، بعيداً عن الأدبية كما عبر عنها ياكبسون، ولكن الكاتب يعبر عن نفس الحدث بأسلوب أدبي ايحائي وتخيلي قصصي، وهذا هو الفرق بين المباشرة والايحاء، فالمباشرة أيضا توجيه قسري من الكاتب للقارئ بمعنى واحد، وإلغاء لدور القارئ في تبني رؤية مختلفة للتأويل.
من هنا نرى أن الرمز وعلم السيميائية بكامله اعتمد عليه وفنده، ويعتبر الآن ملح النقاد والكتاب، والرمز ليس بمفهومه القاموسي، بل التأويلي، فمن يقرأ كونديرا وديستويفسكسي وحنا مينة ويوسف زيدان، سيرى الرمز حاضرا بقوة، وليس فهم الحدث كاف لفهم مقصد الكاتب، وعند الكثير من الكتاب يعتبر الرمز عماد البنية السردية، والذي لا يتساوى فهمه التأويلي عن المعنى المباشر.. والرمز الذي يعتبر من أساسيات الخيال، حسب ارسطو يتدخل بشكل بارز في مسار المعرفة حينما يساهم في صناعة الصور الموحدة للموضوع المطروح. وهنا يجب التنويه إلى قدرة الأسلوب على تبني أشكالاً من السرد الممتلئ طاقة وخيال، كما عرفه عبد السلام المسدي بأنه " تفجر الطاقات التعبيرية الكامنة في صميم اللغة بخروجها من عالمها الافتراضي، إلى حيز الموجود اللغوي". أي: الأسلوب هو الاستعمال ذاته. وأما الأسلوبية: فتهدف إلى "إقامة ثبت لجملة من الطاقات التعبيرية الموجودة في اللغة بقوة ".
ولسنا مع التصنيفات الأكاديمية لما نكتب (واقعية ورمزية، وسوسيولوجية وغيرها...)، فالنص يجب أن يسمو بذاته وجمالياته عابرة للمدارس والمصطلحات من خلال مكوناته الإبداعية، فالنص الجيد هو منتمي لذاته أولاً، ثم إلى اتجاهه الفكري، والى أسلوب كاتبه وطريقة صياغته، وقد يستخدم تقنيات سردية متعددة للوصول إلى هدفه، ومن هنا قد يصنف بعض النقاد النص تحت مدرسة ما، لكن ذلك يبقى وجهة نظر أحادية لا تعطي النص حقه، وتقزم مكانته الابداعية، ولا تستطيع ان تلغي فرادته الأدبية والتأويلية.
خاتمة

فالنقد الأدبي اذًاً ليس تفسيراً للنص فقط، انما يقدم تبريرا لصوابية أجناسيته أولاً، وسبراً لمكامن تعثره السردي والاسلوبي، ثم يقدم تأويلاته المقترحة وتأثيرات التعالقات الداخلية والخارجية على النص، ومدى مقدرته على الترويج للفكرة التي يود تعميق مفاهيمها، وهذا يتطلب من الناقد المقدرة المتفردة في فهم هذه التعالقات النصية، ويتطلب ثقافة واسعة تؤهله إلى استيعاب الدلالات الرمزية لكل جزء من مكونات النص الماكروية ليكّون تأويلاته الكلية، ولا بد أن يبتعد الناقد عن الانحياز والسبر النقدي من وجهة نظر أيديولوجية أو سياسية أو طائفية، وغير ذلك... ولا ننسى المقدرة على الكشف عن مدى قدرة النص التمسك بأولويات اجناسيته الإبداعية، بمعنى المقدرة على رؤية النص من وجهة نظر تفرده النوعي كقصة ق ج، ومدى قدرته على الحفاظ على تقنيات السرد القصير جداً، وهذه من أدق المراحل في سبر النص، فكل جملة وفعل ورمز له مكانته ودوره، وكل زيادة في حمولة النص سترهق القصة وتحيلها إلى نص مترهل يعج بالأفكار والوصف والشروح، التي تعيق تقدم السرعة السردية المطلوبة الضرورية لجعل المتلقي يمشي بسلاسة وسرعة إلى قفلته النهائية المفاجأة. وهنا يجب سبر خطى الكاتب في مقدرته على خرق جدار اللغة العادية، بابتكار لغته واسلوبه، وهل اجتاز حقل النص المكثف، دون أن يتيه في جزئياته وعثراته المتعددة؟ فالمسافة القصيرة للسرد يجب عبورها بكل سلاسة ومعرفة وحنكة.. من هنا نعتبر العملية النقدية عملية إبداعية بحتة، فاستشراف الجماليات الفنية للنص، ورصد القيمة الدلالية للنص، والاشارة إلى سلبياته وايجابياتها عملية إبداعية مهمة، فالنقد هو عملية تفكيك النص وإعادة انتاجه، من وجهة نظر نقدية، بحيث تظهر كل مكنونات النص الإبداعية، وهنا تأتي المقدرة التحليلية للناقد ومن ثقافته الكبيرة ومن رؤيته الثاقبة لخلفيات النص الموازية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

القصص الأكثر مشاهدة

جميع الحقوق محفوظة © 2025 دائرة القصة

close

أكتب كلمة البحث...