بينما كنت جالساً معه في إحدى طاولات الكافتيريا بالجامعة أخبرني صديقي (نزار) بأن هنالك فتاة سرقت قلبه، واستحوذت على تفكيره، وأنه لا يستطيع النوم من فرط التفكير بها.. شاهدتُ معاني التعلق الصادقة في عينيه وأحسستُ بها في نبرة صوته الخجول. لقد سرقت حتى عافيته وشهيته للأكل، فلم يعد يستطع أن يدخل في فاهه بعض طعام.. وهذا واضح على هيئته النحيلة.
سعدت كثيراً وشعرت بنوع من الغبطة، إذ كيف لهذا الحب أن يحول شاباً مهتماً بمحاضراته ودراسته ولا يفكر بغير مستقبله وكتبه التي يقرأها -يحوله- إلى عاشقٍ عاجز حزين يصارع الموت من شدة تأثره بمشاعره تلك، ويا للطف وجمال تلك اللحظات رغم قسوتها إلا أن لها لذة عند العاشقين لا تشابهها لذة. تساءلتُ في نفسي قائلاً: هنيئاً لتلك الفتاة التي ستسرق مني صديقي، وتحوله بشخصيته الطفولية الخجولة المنقادة وطيبته اللامتناهية وبراءته إلى خاتم في إصبعها.
دعوني أحكي لكم قصته:

صارحته يوماً: (نزار) لماذا أراك منهزماً بهذا الشكل؟ أهو الحب أيها الوغد؟
وقلت ممازحاً له:هل هنالك من سرقتك مني؟ -وقهقتُ ضاحكاً وأردفت-؛ وهل يصنع الحب هذا الدمار بالعاشقين؟ تُعساً للحب إذن.!
أجاب بخجل: يالك من فتىً بارع يا جاود، لقد كشفتني، هل هذا فعلاً واضحٌ عليّ ويراه الناس جميعاً؟!
-ضحكت كثيراً حتى الثمالة، فلم أكن أتوقع أن يسقط الشاه -صديقي نزار- بقلبه الطفولي ذاك وجهله بعالم النساء يوماً في شباك امرأة.! قلت له أخبرني سريعاً بكل التفاصيل.
-أجاب: كل ما في الأمر أنيّ لم أستطع التفكير في شيء منذ أن حصل ما حصل بيني وبين الطالبة الجديدة التي انضمت لدفعتنا مؤخراً.
قلت له: هل تقصد ( رؤى )؟ يا للغرابة.! ألم تجد غير تلك الفتاة؟ خيراً ماذا جرى بينكما أخبرني.
- ولم الغرابة؟.. جاود تعلم أني أثق بك كثيراً ولذلك سأشرح لك ما حدث بالتفصيل، وأرجو أن تساعدني.
- لا تخف، سأكون حافظاً للسر، وخير سند وداعم لك، ثق بي يا صديقي العزيز.
-نعم، رؤى تلك الفتاة المجنونة الشديدة الجُرأة..حينما قابلتها لأول مرة في طارود الكلية، طلبت مني أن أدُلها على مكان القاعة التي ستكون محاضرتنا ذلك الصباح فيها.. أخبرتها بالمكان لكنها قالت بأنها لا تعرف كيف تذهب إليه، كان الوقت مازال باكراً جداً وتبقى أكثر من ساعة على موعد المحاضرة والكلية شبه فارغة، رافقتها حتى بوابة القاعة، وحينها سألتني -وهي تبتسم وكأن الشمس تشرق من وجهها لا من جهة السماء- : ما إسمك يا زميلي النبيل؟
أجبتها وأنا أتلعثم وكأني طفل في الثالثة من عمره: نننننيي نيززااا نزار.. اسمي هو نزار.
قهقهت هيَّ بلطف بسبب تلعثم لساني وارتباكي أمامها وقالت: يبدو أنك لا تشبه أبداً شاعر المرأة العظيم ( تقصد نزار قباني) ولست معتاداً على الحديث إلى النساء، لا تخف لن ألتهمك بأسناني كالوحش هو هو هووو ههههههههههه. -وضحكت هي بشدة فزاد توتري وشعوري بالخجل-..
استمرت في الحديث إليّ بحيوية قائلةً: بالمناسبة إسمي( رؤى حمدان )، لاحظتُ بالأمس أنك مهتم كثيراً بالدروس وتكثر من تدوين الملاحظات.. هل بإمكانك -إذا سمحت- أن تشرح لي ما هو المقرر في هذه المادة وما الذي فاتني في المحاضرات السابقة؟
هممتُ بالرحيل، وعجزتُ عنه أو حتى عن الحِراك، وكأني أقف على لغم أرضي زرعته ميليشيا الإرهاب لتستهدف طهر قلبي وتسقطني في أسر فتاة. فجأة خلصتني هيّ من ذلك الرعب وتحركت من مكاني الذي كنت شبه متسمراً فيه، لكن كمن ينقذ الغرقان من البحر ليرمي به للموت في أخدود نار.!

-ادخل القاعة لا تخف لن آكلك، وأمسكت بيدي وسحبتني للداخل.
تركنا الباب مفتوحاً وأنا أرتجف بجانبها من شدة الخوف والخجل، لستُ أدري لماذا، لكنها فعلاً أخافتني وسلبت طهري وعذرية قلبي، انتزعت مني الطمأنينة وزرعت فيّ الشعور بالحاجة إليها، وبالرغبة في البقاء بقربها رغم كل ما يتسبب به ذلك من كوارث عليَّ، فلستُ معتاداً على الحديث إلى الفتيات فكيف بالجلوس بجانب إحداهن بعد أن أمسكت يدي.!
جلست على كرسي بعيد عنها، وبدأتُ أخبرها بتلعثم وعيني نحو الأرض عما درسناه، اقتربت نحوي وجلست في الكرسي الذي بجانبي.. وأمسكت بدفتر محاضراتي تقلب أوراقه وتقرأ ملاحظاتي وتشاهد رسوماتي وتقرأ خواطري السخيفة المثيرة للضحك..
طلبت أن تأخذ دفتري معها بعد المحاضرة، وستعيده يوم غد، قلت لها لا بأس، سأعطيه لك بعد المحاضرة، اعذريني سأذهب الآن إلى الكافتيريا لأتناول وجبة إفطاري فالوقت مازال باكراً.
تركت دفتري، وعقلي، وقلبي، وهربت بكفاي اللذان لم يتوقفا عن الارتعاش، وقدماي اللتان فقدت الشعور بهما..
يا لهذا الشعور الغريب الذي لم أعهده قط في حياتي.!
ذهبتُ إليها بعد المحاضرة وأعطيتها دفتري، لستُ أدري ما الذي قالته لي في تلك اللحظة، فقد كنت منشغلاً جداً بمشاهدة ابتسامتها الخلابة وملامح وجهها الساحرة.!
نعم، أحببتُها من أول نظرة..
غادرت هي بجسدها لكن روحها بقيت معي وعدتُ بها وبتلك الذكريات الجميلة معي إلى المنزل.. لم أفارق سريري يومها ولم تذق عينيّ النوم حتى بعد منتصف الليل، وأنا أسطر في خيالي تفاصيل حياتنا المستقبلية أنا وهي، بل أني اخترتُ لون طلاء شقتنا، وأسماء أطفالنا، وتصارعت معها في خيالي كثيراً فأنا أريد أن يكون لي عشرة من الأطفال وهي تصر على اثنين فقط.!
لم أدرِ إلا وقد غلبني النوم من شدة الإرهاق وهاهو المنبه يصرخ بي فجراً: فلتنهض يا نزار، حان وقت ذهابك للجامعة، وقت مقابلة حورية جنة الدنيا وساحرة الكون.
لبستُ أجمل ثيابي، وأفرغتُ قنينة عطري عليها، شاهدتُ في طريقي لأول مرة في حياتي الطيور تتسابق وتستعرض حركات طيرانها المذهلة وتستعرض أصواتها بأغانيٍ تطرب العاشقين ومحبي الحياة.
أدركتُ أنيّ لم يسبق لي أن عشتُ هذه السعادة الغامرة والحب الباذخ، سحقاً للحياة كيف كانت قاتمة ورتيبة ومملة. أشكر الله على نعمة الحب، فالحياة بدونه ضرباً من ضروب الموت والعذاب.!
وصلتُ للقاعة باكراً، مالبثتُ أن جلستُ على الكرسي حتى أقبلت رؤى تحمل معها ذات الجو الكهربائي المربك الذي يخرجني عن طوري ويهتز فيه كياني وتتلعثم فيه لساني ويرتجف فيه جسدي كورقة وسط ريح عاصفة.!
رحبتُ بها، فتقدمت هي نحوي وقالت: " صباحك سكر نزار "..
لم تكن مجرد كلمة لطيفة خرجت من فاه فتاة لفتى، بل كانت قنينة نبيذ فاخرة، تجرعتها بتلذذ ونسيت بعدها أنا من أكون.!
جلست وهي تثرثر بكلام لم أدرٍ ما هو، فأنا منشغلٌ بالتحديق في وجهها، أخرجت من حقيبتها بضعة ساندويتشات لذيذة تناولناها سويةً بسرعة وبصمت مطبق، ثم ناولتني دفتري ومعه نوع من الشوكلا اللذيذية التي أعشق طعمها كهدية عرفان وشكر لقاء مساعدتي إياها، وتفاجأتُ بذوقها المطابق لما أحب من الشوكولا. شكرتني ودخل حينها بعض من الزملاء فقمتُ للترحيب بهم والحديث معهم.

ومن ذلك الوقت يا جاود وانا لا أستطيع التفكير في شيء سواها، أليس هذا مدهشاً، هل توقعتّ يوماً أن تراني أسقط هكذا بكل سهولة في بحر كنت أسخرُ منه وأراهُ نوعاً من السخف وإضاعة الوقت؟!
-فعلاً يا نزار لم أتوقع أن أراك كذلك قط، فأنت الشاب المحافظ الذي يرى النساء بعين اللامبالي والمغرور ولا يأبه بهن.!
لكن لماذا أراك هكذا حزينٌ وهزيل، أليس ما حكيته لي يدعو للسعادة والأُنس والبهجة؟
-بلى يا جاود، لكن هنالك ما نغص عليّ هذه السعادة وأقلق راحتي.!
-خيراً، قل لي وسأفعل ما بوسعي لتخليصك منه.
-دخلتُ بالأمس إحدى القاعات لأُطالع الملزمة قبل بدء المحاضرة، وتفاجأت بوجود (رؤى) هنالك برفقة أحد الزملاء، وكان يشرح لها بعض الدروس ويتناولون ذات الساندويتشات التي تناولتهم معها، وهذا صدمني كثيراً وجعلني أشعر بالغيرة عليها والغضب منها، كيف لها أن تكون بهذا الشكل من الفظاظة والوقاحة لتخونني وتقابل غيري بهذه السرعة.!
صراحةً حزنتُ كثيراً على حال زميلي نزار، فهو لا يعلم أن رؤى فتاة منفتحة جداً جاءت من الخارج، ولا بأس عندها أن تعامل الشباب بلطف وتطلب مساعدتهم وترافقهم كذلك خارج الجامعة بشكل متحضر وعفوي.. نعم سبق أن وجدتها برفقة بعض الشباب في أحد الكافيهات وتحدثت إليهم، لكني لستُ أدري كيف سأشرح هذا لصديقي العاشق الذي جاوز في حبه الجنون وتسرع أيما تسرع فوقع في خطأ قد يؤثر عليه سلباً.!
لعل هذه الصدمة والتجربة القاسية ستعلمه شيئاً عن واقع هذه الحياة، وتخرجه من قوقعته المثالية الحالمة. يؤلمني أن أخبره بحقيقة الأمر، لكن لابد أن أنتشله من هذه العاصفة قبل أن تدمره أكثر.
-قلتُ له: نزار لقد تسرعت كثيراً في حب تلك الفتاة، ولعل كونها أول فتاة تكسر عزلتك وتسيطر على تفكيرك جعلك تظن أنها قد تكون حب حياتك الأبدي وبوابة سعادتك واستقرارك الأسري مستقبلاً لكن هذا الأمر غير صحيح.. الحياة ليست بهذه البساطة، وسأوضح لك الأمر.
كان نزار ينظر إليّ بدهشة والألم يعتصر قلبه والدمع يكاد ينفجر كنبع من عينيه، فقررتُ أن أشتري ليموناً من الكافتيريا لنشربه ونهدئ أعصابنا، تركتُ كتبي وهاتفي على الطاولة وتوجهت نحو الكافتيريا لأُحضر العصير.
بينما أنا ذاهب سمعتُ هاتفي يرن، فصحت لنزار: أغلقه حتى أعود..
عدتُ سريعاً، لكني لم أجد نزار، وجدت ورقة مكتوب عليها: ( ما توقعتها منك أنت بالذات يا جاود، اشبعوا بها وبالجامعة كمان، سأكمل دراستي في مدينة وجامعة أخرى، هذا قراري الأخير.. وداعاً ).
لم أفهم شيء، فتحتُ هاتفي فوجدت المكالمة الفائتة من (رؤى حمدان).!
كنتُ أعطيتها رقمي لأساعدها في مشروع خيري تسعى لتنفيذه في الجامعة.. إلا أنها مع غباوة وقلة خبرة صديقي وسوء ظنه وشكه بي تسببوا بخسارتي له، وهاهي مرت سنة كاملة ولا أعلم عنه شيء.!
#كل_التفاصيل_من_وحي_خيال_الكاتب

#Jawed_3awadhi

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

القصص الأكثر مشاهدة

جميع الحقوق محفوظة © دائرة القصة

close

أكتب كلمة البحث...